1/ تاثير الموقع كمكون ثقافي للمدينة .. (وسائل النقل كمؤشر).
.......................
يابابور الغالي وينه...؟
تغنّى الكثير بوسائل النقل، ربما لأنها أداة للتواصل كما اللغة، وربما لأن بعضها يصدر أصواتا تخترق سكينة تأملاتنا فتهزنا وتوقظنا من أحلامنا وتداعبنا بشحنة من الحيوية
ولكل منا قراءته، فقد يجد كل متأمل أكثر من ربما…وأكبر ربما تحضرني الآن، أن أداة النقل شيء يحتوينا، يتوحد معنا كتليا في زمن الانتقال، ألم يكن سر سكينتنا الأول هو حضن أمنا الذي يحتوينا و ينتقل بنا من مكان لآخر ..وبشيء من التعمق نجد أن استيعابنا للحياة يرجع دائما لدنيا الرحم وإدراكنا لوجودنا فيه ومن خلاله…هكذا فكل شيء يحتوينا ويهزنا يعد حميما لأنه يستخدم أكبر وأول لغة بين البشر
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}
من سورة الإسراء- الآية (70)
ونحن نطلق تعبير “إيزازي ب” على من يبذل كل أوجه الاهتمام والعناية وهي في الحقيقة صفة لفعل الأم الأول في بعث الرضا لصغيرها..”هبلة تاريك.. ورا غاليك.. اتقول عيل وانزازي بيك”…!ولعل هذا يقودنا للتسليم بأن قيمة المحمول من قيمة الحامل..والتسليم بأن الاحتواء هو صورة جامعة للامتلاك والانتماء في نفس اللحظة، ويدعونا هذا للتأمل في قول الحق..
( وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) الآية 22 من سورة المؤمنون
ألا يحمل البحر الفلك فهي منه، ثم ألا تحملنا هي فنحن منها.. ومن ثم فنحن من البحر، ثم نقول نحن أسياد البحر…!..ونعني طبعا أنه سيدنا ولا يهم في حالة التوحد أي التعبيرين تقول فكلاهما لذيذ وحقيقي…والبدوي في التراث الليبي تغنى بالإبل ، وعبد الوهاب وغيره من سكان المدن تغنوا بالقطار“الوابور”وتحفل الأغاني الشعبية الليبية بذكر كل أنواع السيارات وبدلالتها على شخصية راكبها وهويته ومكانته، فقيمة الرسالة من قيمة الرسول والعكس.. وقد اصطفى الله رسله وأعز حبيبه بالبراق.. وعليه فإن تأصيلنا لملامح فن ما يقودنا لدراسة المركوب الذي يعتبر مؤشرا للبيئة والثقافة والمزاج أيضا…وباسترجاع الذاكرة البنغازية باختلاف حقولها نقف على صاحب النصيب الأكبر في وجدانها “البابور”وهو ليس الوابور المصري” القطار” وإنما هو اسم الباخرة حاملة البضائع أو الركاب، ولنذكر مثلا “يا بابور الغالي وينه” ،،”بابور امرسي ع المينا.. مليان حكاكي سردينة” ،،”عد غلا.. بابور مشى..شور ابلاده،شور المينا”…..الخ مما يعرفه سكان المدينة ويحفظه…
ترى ما يعني هذا..بقراءتي الخاصة أعتبر البحر أهم مكون ثقافي لساكني بنغازي وأراها أشبه بمدن المتوسط الأخرى من بعض المدن الليبية كغيرها من المواني فالإسكندرية مثلا تشبه بنغازي أكثر من “سيوه”، بينما بنغازي تشبهها أكثر مما تشبه “غدامس أو أوجلة”…و( تشبه) هذه في كل شيء وليس فقط في مخطط المدينة بل تتعداه للبيوت والساحات وطباع الناس وفنونهم،ففي الموسيقى مثلا تعتبر الغيطة هي لون الغناء الذي تتميز به “بنغازي” وباستماعك للزفة الإسكندرانية تجد نفس الإيقاعات وأسلوب الغناء الذي يشكل فيه محورا مهما وجود شخص ينادي أو يتساءل وآخرين يجيبونه، و لك أن تعرف أن لعبته الأولى كانت قوقعة كبيرة يغني فيها فتجيبه صدى..!…فيقف في وسط المجموعة بعد أن يقتحمها بصوت“هااااي…وينادي الجماعة” قولوا امعايا”…ويجيبونه“أيش أنقول..؟” وتستحضر بوقفتهم وتناديهم مشهد الريس وبحارته حيث يقودهم ويعتمد عليهم ويؤمن بهم..وتسمعه في موقف آخر يناديهم“هيا ارجالي” مما يعكس روح الجماعة،وتكثر في الغيطة والأغاني البنغازية عامة أصوات من مثل هاي هاي،هيا هيا، ياهو ياهو” وهي نفس أصوات البحر البيروتية “هيلا هيه”كذلك سمات شخصية ابن البحر وأهمها الانفتاح وتقبل الآخر ونحن نسمي بنغازي“رباية الذايح” وهذا يفسر كثافة العمل الأهلي والاجتماعي المؤسساتي وليس القبلي “العرقي” فيها ويفسر رياديتها في هذا المجال ،ويفسر تمسك غير الليبيين بالإقامة فيها لشعورهم بالانتماء، ووجود كل القبائل في بنغازي مما يشكل فسيفساء بديعة من التشكيلات الإنسانية ومما يثري الثقافة والذوق، وكذلك الجرأة فابن بنغازي “البنغازينو”* أول المتحدثين وأعلاهم صوتا وأكثرهم فظاظة باستخدامه ليديه وعضلات وجهه وقد يستنكر عليه الآخرون هذا السلوك ، فلو عرفوا ربطه بين الحركة والكلام في تعبيره لعذروه، لأنه متأثر بالبحر ذلك المخلوق الذي يطرح تساءله الدائم “تستحضرني بحركة أمواجي أو بصوتها…؟ و هل تتقبلني أو تعرفني بدون صوت أو حركة؟”..والبنغازينو أيضا أوضحهم لغة وأسرعهم كلاما وصاحب المبادرة بينهم…فهذه أخلاق أهل البحر في كل الدنيا - مع مراعاة الفروق الفردية طبعا - وابن البحر تاجر بطبيعته وابن الميناء بالذات وتاجر تعني مغامر ومسافر ويشحنه القلق… ولهذا السبب فالمساحات المخصصة للاستعمال التجاري تعد دائما أقل من المطلوبة ويتم تجاوزها….وبنظرة لزاوية أخرى فإن التشكيل والذاكرة البصرية يتأثران بالبحر وتأخذ ألوان الأسماك والأحجار الكريمة الصدارة وجميعنا يدرك أحقيتها بالصدارة ففي الزيّ الشعبي مثلا نجد أردية مثل “سورية الشلبي”،”ردا البوشية” وهي أسماء لأسماك، وبدوري كمعماري ووفقا لهذا أجمع بين درجات “البيج” الترابي والأزرق الهادي والأخضر لأرضي زبوني “ولد البلاد”…وأتمادى للشفافية واللون الأسود المسيطر مع بقع من ألوان مشعة كالأصفر أو الأحمر هي أيضا من البيئة البحرية وكذلك استخدام الزجاج الملون المموه بألوان غامقة والموشح بوهج فاقع.. ولكن في مناطق أكثر غوصا ومع شخصيات أكثر ثقافة لونية.. والزجاج الملون هو انعكاس لانفعالنا الأول تجاه البحر،اقرأ معي هذا النص..
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الآية 44 من سورة النمل
وبالمناسبة فالأزرق الفاتح يسمى في مدن أخرى سمائي وفي بنغازي “فيروزي” تأثرا بالبحر…!.ولو عرجنا على الأدب قليلا واسترجعنا قصص الحوريات والبحارة وكثافتها عند كتّاب بنغازي لوضعنا البحر أيقونة تعريفية بديلة لأيقونات المدينة ورموزها الثقافية..
أحبابي…ماذا أتمنى أن أرى..أتمنى أن يعبر العمل عن بنغازي ويشبهها وجدانيا لا أن يشبه مبانيها الإيطالية أو يشبه عمارة “غدامس” أوغيرها من المدن فلكل خصوصيته، وهذا طبعا مع اعتزازنا بغدامس وجمالها وأصالتها… أتمنى على المشتغلين بالفنون - والبصرية منها بالذات- إعادة النظر لمفهوم التراث أو الهوية ومفهومي التقليد والاقتباس… فقبل أن نتأسى بالمحيط بنا من أعمال ومفاهيم لنتأسى بمعطيات البيئة التي أنتجت هذه المنجزات وقبل أن نتحدث عن ملامح الخصوصية في أعمالنا لنبحث عنها في وجداننا…
جزء من دراسة “إنثربولوجية- فنية” لتأصيل الهوية الثقافية سبق نشرها في صحيفة قورينا
http://www.al-ijdabi.com/artical_show.php?ArticleID=930
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق