مرحبا بك..... هنا ...


يمكن ان نخبئ كل الفنون /



( قصيدة ، لوحة ، زيي ، قصة ، لحن ، مبنى، منحوتة ، مخطط مدينة ، رقصة ) في خابية واحدة مادتها الجمال ..

وفاء الحسين

الجمعة، 2 مارس 2012

الإسلام وعمارة الأرض

جمال الهمالي اللافي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{
خَلَقَ الإِنسَانَ , عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}- سورة الرحمن


رغم تراجع المسلمين عن الإسهام في صياغة الحضارة الإنسانية المعاصرة، إلاّ أن الإسلام كدين سماوي لا يزال يقدم نفسه- منذ بزوغ فجره على الإنسانية جمعاء- على أنه دين عبادة ومنهج حياة ، كتب انطلاقته الأولى مع بداية الخلق ونزول آدم أبو البشر عليه السلام إلى الأرض محملاً بجميع المعارف والعلوم التي تستوجبها قضية عمارة الأرض وإرساء دعائم العبودية لله الواحد القهار:
{
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)}- سورة البقرة.

وازداد تعمق وفهم البشرية ووعيها للكثير من الأمور المرتبطة ببيئتها عبر عدة مراحل من التطور التدريجي، الذي لم يكن من قبيل الصدفة التي نادى بها " داروين" عبر نظريته" النشوء والارتقاء"، كما أنها لم تكن مبنية على تراكم الخبرات البشرية- كما يشيع علماء الاجتماع في الغرب وتلامذتهم المتغرّبون-، وإنما هي نقلات نوعية حققتها البشرية من خلال سلسلة متواصلة من الرسل والأنبياء، الذين جاؤوا ليحققوا غايتين:
الأولى: وهي الأهم تصحيح الإختلال في عقيدة البشر والدعوة لتوحيد الخالق وأحقيته بالعبادة.
الثانية: استكمال مراحل عمارة الأرض، وبناء العلاقة المتوازنة بين الإنسان ومحيطه البيئي.

{
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61)}- سورة هود.

وسنسوق هنا بعضاً من هذه النقلات النوعية التي تمت على يد هؤلاء الأنبياء والرسل عليهم السلام- بدءا من آدم أبو البشر عليه السلام وانتهاء بخاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم- من خلال ما ورد ذكره في الكتاب الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه( القرآن الكريم)، ونلفت النظر هنا إلى أن هذه الأشياء لم يكن لها أصل أو وجود قبل أن يأتي بها هؤلاء الانبياء والرسل عليهم السلام:

1.
دفن الموتى/
{
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ(28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثـْـمِي وَإِثـْـمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ(29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ(30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ(31)}- سورة المائدة

2.
سفينة نوح/
{
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37)}- سورة هود.

3.
بناء البيوت بالحجر/
{
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين( 96 )}- سورة آل عمران.

4.
تأسيس علم نظم الإنشاءات في المباني/
{
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم( 127 )}- سورة البقرة.

5.
بناء القصور وصناعة الزجاج والغوص في البحار/
{
قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين( 44 )}- سورة النمل.

{
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ( 35 ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ (37)}- سورة ص.

"
أي أن صناعة البناء وصناعة الزجاج والغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ ليست اكتشاف إنساني بل هي من مهارات الجن التي تمّ توصيلها كخبرة للبشر بعد ذلك عن طريق نبي الله سليمان عليه السلام".

6.
تأثيث البيوت وبناء الحصون وصناعة الملابس/
{
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}- سورة النحل.

7.
صناعة الحديد/
{
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}- سورة سبأ.

{
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}- سورة الحديد.

8.
الاقتصاد/
{
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)}- سورة يوسف.

9.
صناعة السدود/
{
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)}- سورة الكهف.


الإسلام والعمران/
إدراك حقيقة أن رسالة الإسلام هي امتداد طبيعي لباقي الرسالات السماوية التي سبقته، ومكملة لها. كذلك الإقرار بإسهام الرسالات السماوية في إرساء دعائم الحضارة الإنسانية على وجه الأرض، سيقود إلى فهم وتبيان العلاقة بين الإسلام كرسالة سماوية وما أنتجته الحضارة الإنسانية في مجملها وما أنتجته في مجال العمران تحديداً، من خلال استعراض موقفين أعتقد أنهما يشكلان نقاط مرجعية لكل ما بعدهما من مواقف وأحداث في التاريخ الإسلامي:

الموقف الأول/ مرتبط بقصة سفّانة بنت حاتم الطائي حين مر عليها رسول صلى الله عليه وسلم وهي في السبي، فقامت إليه، وكانت امرأة ذات وقار وعقل، وقالت له:
«
يا محمد أرأيت أن تخلي عنا، ولا تشمت بنا أحياء من العرب فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يحمي الذمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيىء، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحمنا عليه، خلّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق». ثمّ قال:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". (صححه الألباني في الصحيحة).

حديث شريف، يرسي منهجا في كيفية التعاطي مع الآخر المختلف عنّا والمغاير لنا في منهجه وعقيدته، كما يؤسس لكيفية احتوائه، وذلك باحترام ما يملكه من قيم لا تتعارض مع الإسلام في شئ.

أما الموقف الثاني/ فيتعلق بوصية الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه التي ألقاها في توديع جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما المتوجه إلى مؤتة للثأر لمقتل الصحابة على يد الروم، حيث قال:
(
يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام فإذا أكلتم منها شيئا فاذكروا اسم اللّه عليها. وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم اللّه).

ستة مبادئ استخلصها أول خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، من حديث ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق):
1.
النهي عن الخيانة والغدر لما فيهما من نقيصة وتضييع للأمانات بين الناس، وهدر لحقوق الآخرين، ونقض للمواثيق والعهود، وفقدان الثقة بين الناس.
2.
الابتعاد عن الغلو لما فيه من تكلف وتشديد على النفس، وتنفيرها من قبول الدعوة.
3.
عدم قطع النخيل أو حرقه أو قطع الأشجار المثمرة ( رفض سياسة الأرض المحروقة التي تعتمدها الجيوش الصهيونية والصليبية والماجوسية). وعدم ذبح المواشي والأبقار أو الإبل إلاّ لضرورة الأكل.
4.
عدم إفزاع الآمنين أو ترويعهم من العبّاد والناسكين المنقطعين للعبادة، ولا شأن لهم بالحروب . وعدم تبرير هدم دور العبادة المتعلقة بالأديان الأخرى (يشمل النهي اليهود والنصارى فقط) لأي سبب كان. (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256))- سورة البقرة.
5.
قبول ما عند الآخر من اختلاف لا يتعارض بالضرورة مع ما أحل الله من ألوان الطيبات( أكل، ملابس، فنون وعمارة، ثقافة، علم، سلوكيات وعادات، مكارم الأخلاق) ، وذكر اسم الله على كل شئ.
6.
التفكير يجب أن يتجه تحديدا لمقاتلة المحاربين الذين أعدوا عدة القتال للصد عن تبليغ دعوة التوحيد، وإيصالها للناس أجمعين. والنهي عن التمثيل بالقتلى في المعارك، لما ينم عنه من قسوة في القلب وتشفي وانتقام لا مبرر له، يفسد الغاية الأسمى من هذه الفتوحات. كذلك عدم التعرض للأطفال والشيوخ والنساء، لأنهم غير قادرين على القتال وعاجزون عن الدفاع عن أنفسهم.

بفهم الصحابة، رضوان الله عليهم جميعا، لهذين الموقفين وأبعادهما الأخلاقية استنبطت جيوش الفاتحين من الصحابة والتابعين خطاباً حضارياً تأسس منهجه على مجموعة من المبادئ، التي شملت كل مناحي الحياة، يستمد منطلقه من كتاب الله وسنة نبيه، والذي تجسد في كلمة الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه، لمّا دخل على ملك الروم: "إن الله بعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" .وبه حملوا مشعل الحضارة إلى كافة أرجاء المعمورة:
خطابا ينبني على الصدق والوضوح وبساطة الطرح.
خطابا ينبني على الأمانة وحفظ العهود والمواثيق.
خطابا ينبني على الإنصاف ويستوعب الآخر برحمته وسماحته وعدله.
خطابا غير إقصائي ولا استعلائي، يقبل الآخر كما هو، ولا يملي عليه ما يجب أن يكونه.
خطابا يحترم معتقد الآخر ويستوعب ثقافته وقيمه ومنجزاته.
خطابا يقدم حلولا للمعضلات والإشكاليات التي تواجه البشرية جمعاء.
خطابا تفاعليا يقبل مثلما يعطي ويحترم تنوع التجارب والخبرات السابقة.
خطابا لا يتعارض مع السنن الكونية، بل يتواصل معها ويدعمها، ويعيد تسخيرها لما فيه خير البشرية.
خطاباً ينبنى على عمارة الأرض وليس السعي في خرابها، ويصون مقومات البيئة الطبيعية ولا يتعدى عليها، ويأخذ منها على قدر، بلا إفراط أو تفريط. كما ينبني على الاستعمار( من العمار) وليس الاستدمار( من الدمار).
خطابا منفتحا على كل مباهج وطيبات الحياة وألوانها ما لم يكن محرما بالضرورة لفساد منبته أو تحقيق ضرره على النفس والمجتمع.

ومن هذه المبادئ يمكن فهم الخطاب الحضاري الإسلامي من مسألة عمارة الأرض، فالمسلمون من خلال استيعابهم للسنن الكونية والخبرات الإنسانية المتعاقبة- التي هي نتاج رسالات سماوية سابقة- عند تعاطيهم مع البيئة الطبيعية واستيعابهم للحلول المختلفة، لم يكونوا بحاجة لتفكيك أي نسيج من أنسجة المجتمعات التي دخلوها فاتحين، فلم يتعرضوا لا للنسيج الاجتماعي ولا الثقافي ولا العمراني ولا الاقتصادي ولا العقائدي( اليهود والنصارى) ولا النفسي بسوء.

فالرسالة الأولى الصادرة عن نبي الأمة تدعو للإتمام وليس للإحلال، وتدعو للتعاطي مع كل ما يمر بالمسلمين في مسيرتهم الحضارية من منطلق التغيير للأفضل وعلى قدر الحاجة، واستكمال النقص ومعالجة القصور. وهذا ما جعلهم يقدّرون ما وجدوا الناس عليه، فأبقوا على ما هو قائم ولا يحتاج للإصلاح وانصرفوا لإصلاح ما عجز الناس عن فهمه واستيعابه. كما أخذوا عنهم ما ينفعهم وتركوا ما يضرهم أو يتعارض مع نصوص الشريعة الإسلامية السمحاء. وبذلك عمل الإسلام من خلال معتنقيه كبوتقة احتضنت كل الخبرات السابقة وأعادت صياغتها في قوالب جديدة، ومن تمّ إعادة توظيفها بطرق شتى تتماشى مع متطلبات العصر وحاجات الإنسان المتجددة.

وهنا يكمن سر الحضارة الإسلامية التي توجت بميلادها، لمرحلة جديدة أخرجت الانسانية من دهاليز الظلام الذي خيم على الانسانية لعهود طويلة من الجهل وفتحت أمامهم آفاقا جديدة من الفهم والإدراك للكثير من العلوم والمعارف والمعاني وتركت لهم مجالات ينطلقون من خلالها نحو إبداع لم تسبقهم إليه أي حضارة أخرى، مهّد الطريق لعصر النهضة العلمية والصناعية والمعلوماتية في العالم الذي دخلته الفتوحات الإسلامية ومنه إلى أوربا والعالم الجديد.

لم يجعل الله سبحانه وتعالى عملية التطور الحضاري للإنسانية عبر إلهامه للبشر عن طرق الوحي للعقل، بل جعل ذلك يتم عبر الوحي لأنبيائه، فهم من علّم البشر ما يساعدهم على تحسين ظروف معيشتهم على وجه الأرض، وذلك لأمرين:
أولهما: ليعرف البشر فضل الله عليهم وحاجتهم إليه، فيخلصوا له العبادة وحده.
وثانيها: لعلمه المسبق أن هناك من بني البشر من سيأتي يوماً لينسب الفضل في تطور الإنسانية إلى جهد عقل الإنسان وحده، وينسب بذلك الفضل لغير أهله، فيضل من ورائهم عبادا وتنحرف عقيدتهم من وراء مثل هذه التخاريف والمزاعم.

{
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( 3 )}- سورة المائدة

وبالتالي فإن الدعوات التي تقول بأن الإبداع الإنساني منفصل عن الإسلام كدين وبالتالي تضع الدين في مواجهة العلم، تارة كمتعارض معه، ومناهض له وسداً منيعاً أمام انطلاقته ( كما نادت بذلك النظرية الإلحادية الشيوعية على لسان منظرها ماركس في مقولته المعروفة: الدين أفيون الشعوب)، أو تجعله في موضع العاجز عن مجاراته أو مواكبته تارة أخرى. وهذه مغالطة كبيرة للحقيقة البيّنة، يراد بها من- أدعياء البحث العلمي المنهجي- المبني على قلب الحقائق ونسبة الفضل لغير أهله.

وهذا حال من قال ويقول، إنما أوتيته على علم من عندي، ومصيره كمصير سابقيه من أمثال قارون:
"
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين(77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ (81)"، سورة القصص.

المصدر / مدونة الميراث /

http://mirathlibya.blogspot.com/