لأنها كانت (محترمة وزوجة لرجل) لم تكن أمي تعرف ما يدور خارج الباب، كانت فقط تتخيل أن البرد في الخارج أكثر منه في بيتها، ولأنها ليبية العقلية كانت لا تتجرأ ويكون لها اجتهادات ذهنية ، لم تتعلم هذا النوع من التطاول فهي طيبة (درويشة) ولا تشغل مخها في الاستنتاجات هي تأخذ ما تسمع من أفكار وتلتزم به حرفيا ( ببساطة )، لذا لم تدرك خلال الأربع سنوات المتتالية التي كانت تشحنني فيها بالمرض حقيقة سلوكها، كانت بحرص وعطف ظاهر تثقلني بالملابس(تقلفطني) لتحميني من برد الصباح، ولم يخطر في ذهنها الموجه أن تناقش أو تتخيل موضوع المطر ، فلا مطر في بيتها، وأبي بدوره ( دار اللي عليه ) حيث لكل منا ثلاث أحذية (قنباليات) تصل إلى ركبتيه...
ونخرج يوميا لنسبح حتى المدرسة، كانت قريبة، نعم حوالي مائة متر، وهذا وفق منطق أبي سبب في تتفيه كل العواقب لأنه يقيسها بالمدة ، مدة وجودنا في الطريق لا بطبيعة الطريق التي قد تكون متران وتضطرنا للسباحة ، الإنسان في بلادي هكذا، يمسك بجانب واحد في التفكير (أحادي النظرة) وان حاول أن يكون شموليا ومتعددا وصف بأنه معقد ،لم اغضب عندما سمعت كثيرا من صديقاتي "كنك هكي اتعقدي في الامور" على اعتبار ان التسطيح بساطة، وهي افة فكرية تعطل عجلة التقدم في حياتنا فكل قراراتنا تتحمس لجانب وتتغاضى عن البقية لتشكل فيما بعد اسباب لتداعيها، فعندما كان يسألني مديري سؤال كان يلحقه بطلب " جاوبيني وباختصار" ، "نبي كلمة وحدة ، ليش ..؟ " طبعا هذه ال ليش تحتاج لشرح فالتشعب طبيعة الحياة ، وأجدني في مأزق وتأبى أخلاقي أن أريح اعصابي على حساب مصداقيتي وأقول"لا اعرف"، وتنتهي عادة بان اشرح بينما هو لا يصغي لي وإنما لصوت في داخله يقول" ما اكثر دوتها " لهذا لم و لن يسمعني يوما و لكن لا ادري لما يعود ليسألني مجددا، ربما ليجدد إصغائه لصوت ذاته التي تستسيغ الإدانة كطريقة ليبية لتقدير الذات" سبق العيب في بنات النسا قبل ايشوفنه فيك" أو لأننا نستمتع بالتذمر والشكوى ، تنصحني أمي التي تخاف ان اتعب في حياتي على حد تعبيرها " ما تمسكيش في الكلمة البنادم مش كل كلمة ايقولها يقصدها"، أتعجب، أيفترض بي ان أخاطب الناس كمعتوهين..!!! واقدر لماذا يسمع الناس بربع اذن ، لانهم "ما يمسكوش في الكلمة " يمررون الكلام وهم يركزون على رسم الابتسامة وهز الرأس وينتظرونك لتصمت فيقولون أي شيء لا يقدم فكره، بدون جدل و"دواخ راس" وانما كلام والسلام.
قبل محاضرات الجامعة كان الطلاب يجتمعون حولي ليردعوني" فكينا من الأسئلة خليه يكمل محاضرته ويطلع، بعد تسأليه يرد ومعش تحز"، لا ادري أكنا طلاب علم أم رافضي علم !!!! .. ثم عرفت اننا رافضي تشغيل ذهن .. وعذرتهم عندما استغرب الاستاذ درجتي واستكثرها علي .. فانا - كما وصفني - اخر طالب يفهم الدرس واكثر طلابه ثقلا عليه .. تندر قائلا : " انت تحتاجي لساعة تسألي فيها زيادة عن كل ساعة في المحاضرة " .. اييييه .. ليته كان يجيب اي من تلك الاسئلة .. " الله يطريه بالخير " ..
لو كانت أمي تمسك في الكلمة ( عندها حس لفظي) لتذكرت إننا نسكن في (البركة) واعدتنا للسباحة عوضا عن المشي، احمد الله كثيرا عندما أتمشى اليوم في (البركة) حيث كنا نقيم وأهنئ أطفالها بحظهم الأوفر, في حين تميل صديقتي للشكوى وتقول نحن جيل الروماتزيوم ، فأحاول أن اتندر بتذكر أن الماء يصل لأكتافنا بينما تصل أحذيتنا للركب ، كم كنا محظوظين بمعلمات في غاية الإنسانية، حيث تقوم المعلمة بخلع أحذيتنا وملابسنا ونشرها يوميا وكأنها مكلفة بهذا،لم نكن نتعلم الكتابة بقدر ما تعلمنا قيمة أن نحاط بالرعاية، وان تكون الطرق معبدة ، أتذكرها فأحييها، وأدعو لها وأنا أشاهد برنامجا تربويا عن دور الأم في تعليم ابنها ارتداء الملابس لوحده، وأتذكر من جيلي من كان تمضي الخمس أيام ولا يغير ملابسه ولا احد من أهله يلاحظ ،وتلاقيت بأحدهم مؤخرا وهو يملك ويدير محل للملابس الراقية...!!
" المتربي من ربي" هذه عبارة أمي ، ربما بفضلها أو بفضل طيبتها كان لها ولمثيلاتها البسيطات باقة من المتربيين بدون جهد منهن.
يرى زوجي أن نغير مسكننا لأنه يبعد عن مقر عمله ويقترح بديل في منطقة مليئة بالحفر، وأتذكر برعب طفولتي البائسة واحضن أبنائي بقوة وأقول " وانت اللي توصل العيال للمدرسة "، ويهز رأسه بالإيجاب ، ويستنطقني رعبي مؤكدة : " يوميا " يكرر بنفاذ صبر : " يوميا " واسرح ، ترى هل سيلتزم بوعده أم كان "يفوت وما يمسكش في الكلمة" ويفض السيرة وكفى، وتستيقظ عقدي، وتلجمها ثقافتي ، وأجيب نفسي بان البدائل محدودة وهو مضطر، وأوافق على زيارة المكان وتفاجئني الحفر وأصرخ :" مستحيل" ، فيندهش" بسم اللهي ، ماكنتي اكويسة، واقتنعتي ، قتلك واللهي ح أنشيل العيال "... وأجيبه " أنخاف عليك، هذين حفر يوارن السيارة مش غير العيال .. تأخر عليا ساعتين وانا مطمئنة خير من تقرب مني ومن دنيا الرعب هذي"..
اكتب هذا وأنا أتساءل ما المعايير الأخرى التي أهملها وسأفاجأ بها بعد الانتقال...؟ فعيني لا ترى إلا الحفر وعيني زوجي تغطيهما ساعته التي تحسب المدة، أتساءل : هل اتبع ضميري وأنصف قراري وأفكر بشمولية وأبدأ بحصر ميزات البيت وعيوبه..؟، أم استغلها مناسبة لأتعلم البساطة..؟
وتجيبني تجربتي: على رأس من ستصب البساطة لعنتها...؟
بقدر ما أسعدني حجم التعليقات – في بريدي - على هذا المقال بقدر ما تمنيت لو كانت في المدونة .. أما وان اعتقد أصحابها أنها ستحرجني فاني اشكر احترامهم وأقول ان لا حرج.
ردحذفوبقدر ما سعدت ان لغتي أقنعتهم ان الكلام حقيقي بقدر ما حزنت ان نربط بين المبدع وبين شخصيات يكتب عنها ..عموما هذه التجربة تساعدني لأتوقع انطباع الناس عن الرواية.
وبدوري اشكر اهتمامهم واعتذر عن مواصلة نشر سلسة يوميات زوجة ، خاصة وفيها ما يتحدث عن الزوج وأسرته وأصدقاءه ... واراني أمام هذا التداخل بين شخصي وشخص الراوية أسيء لأقرب الناس ولصورة المرأة الليبية باستمرار النشر فالكتابة ليست مبرر لأهين أحبابي وافضحهم ..
ولقد سبق وتوقعت هذا ونشرتها تحت اسم مستعار .. وللعلم
انا لم اسكن بالبركة أبدا .. وليس لدي مدير لأنني لم اعمل كموظفة وعندما عملت كنت انا المدير ..
وأمي أطال الله عمرها تعرف ما خلف الباب بل لا تغلقه أبدا فهي تتواصل يوميا مع جاراتها ولا تفطر فطور الضحى الا برفقتهن وهي متحدثة بارعة وحكيمة وكثيرا ما استدل بمقولاتها في اعتزاز.. ولم تكن تلبسني ملابسي بل كانت أختي حفظها الله تلبسني واركب معها هي وزوجة أخي سيارة اخي حتى المدرسة لانهما معلمتان في مدرستي .. ثم ليس لي أطفال في عمر المدارس بعد ..
سلسلة اليوميات هي انفعالات التقطتها من شخصيات نسائية حقيقية ودمجتها لتكون هذه الإنسانة الأشبه بغالبية الليبيات اللواتي يعانين ظلم التناقض والمفاهيم الخاطئة والقيم المشوهة والكلمات البشعة
و تجهض في شخوصهن اماني الجمال والامان..
امتناني لمحبتكم وحرصكم وصراحتكم ..
رائعه تمنياتنا لكم بالمزيد من التفوق والازدهار
ردحذف