مرحبا بك..... هنا ...


يمكن ان نخبئ كل الفنون /



( قصيدة ، لوحة ، زيي ، قصة ، لحن ، مبنى، منحوتة ، مخطط مدينة ، رقصة ) في خابية واحدة مادتها الجمال ..

وفاء الحسين

السبت، 25 سبتمبر 2010

مقياس حواء للزلازل...



مقياس الزَّلازل
الكاتب : عبدالله هارون عبدالله
* قصة قصيرة .
كانت زيارتي لصديقي الناقد والقاص (علي مسعود) والمقيم بمدينة (الأبيار) بعد أيام من حادثة زلزال القاهرة .. وصادفت زيارتِي له حفل عشاء ..
كان قد أقامه بمناسبة قدوم مولود.. وهكذا وجدت نفسي بين أناس من أقاربه وأصدقائه وجيرانه من مختلف الأعمار والمشارب والمِهَن.. قُدِّمَت لهم خلال العَشاء إحدى عشرة قصعة.. ومن يعلم بأن كل قصعة تُقدم عادةً لأربعة أَكَلَة (ارباعة).. يمكنه أن يُخَمِّن عدد المدعوين وغير المدعوين الذين اكتضَّت بهم (المربوعة) الكبيرة التي تربو مساحتها على خمسة وسبعين متراً.. كان أثاث (المربوعة) بسيطاً.. سجّاداً ذا لون واحد خالٍ من أية زخارف.. ومجموعة من المراتب الأسفنجية المغلَّفة بقماش زُّين بزخرفة نباتية.. بالإضافة إلى مجموعة من الوسائد المُغلَّفة بالقماش ذاته.. وعُلِّقت على أحد الجدران بعض الصور.. وعلى جدار آخر رسمة معلقة لطفل بائس تترقرق في عينيه الدموع.. وفي مواجهة الحضور كان ثمة طاولة يتربع عليها تلفاز تتنازع شاشته هذه القنوات الجديدة التي جلبتها الصحون.
لم يكن التلفاز ليحظى بمتابعة الحضور واهتمامهم.. فقد انقسموا إلى مجموعات غارقة في أحاديث جانبية أو منهمكة في لعب الورق.. ولكن إذا ما ظهرت على الشاشة لقطة من تلك اللقطات المشاكسة للحياء صدرت عن غالبية الحضور همهمة يحاول البعض دمجها في الحوارات المتقاطعة.. أو تحويلها إلى ضحكة مختلقاً لها سبباً ما.. قلة من الحضور كانوا يجلسون فُرادَى.. وهؤلاء يحاولون متابعة ما تعرضه الشاشة.. ولكنهم يجدون صعوبةً كبيرة في الْتقاط الصوت المصاحب للصورة بسبب هذه الجَلَبَة الناتجة عن تقاطع الأحاديث وصخب اللاعبين.
كان (علي) يجلس بجانبي أغلب الوقت.. وكنَّا نُكَوِّنُ بدورنا مجموعةً من هذه المجموعات.. كان حديثنا مُنْصَبًّا بالطبع على اهتمامنا المشترك والمتعلِّق بالكتابة القصصية.. وكنت بعثتُ إليه منذ فترة ببعض النصوص القصصية.. وبطبيعة الحال فقد كانت محوراً هامًّا من محاور حديثنا.. كان رأيه فيها يتلخَّص في أنها قصص مواكبة للحدث.. أو المرحلة.. فهي بذلك قصص صحفية وهذا ـ كما قال عنها ـ عيبها الوحيد.. قلت:
ـ هل ينبغي للكاتب أن يتعامل مع المرحلة بعد انقضائها بزمنٍ طويل؟
أجابني:
ـ نعم.. ذلك هو الأفضل.
***
حان موعد نشرة الأخبار بالقناة التي تحتل الشاشة.. بينما كان الحضور يشربون الشاي الأخضر الذي قُدِّم بعد العَشاء.. فخفَّت الضجة.. وتعلّقت العيون بالتلفاز.. وأرهفت الأسماع.. وأخذ البعض منهم يدعون جماعة من اللاعبين المتخاصمين إلى تناسي خلافاتهم والتزام الهدوء.
كان الخبر الرئيس يتناول زلزال القاهرة.. وتوالت على الشاشة مشاهد الإنقاذ والجرحى والجثث وسيارات الإسعاف.. كان زلزالاً شديداً.. تقرُّ بذلك هذه المشاهد.. ويصدّقها مقياس الزلازل الذي سجّل قراءة مرتفعة في الهزّة الأولى.. وفي بعض الهزَّات اللاحقة والتي تعرف بتوابع الزلازل.. وتم تناول الخبر في أكثر من فقرة ومن عدّة زوايا.. وأحس الحضور بشيء من الفتور في الرغبة في المتابعة.. لكنهم لم يعودوا إلى ما كانوا فيه من لَعبٍ وأحاديث جانبية.. بل كَوّنوا ما يمكن وصفه بحلقة نقاش مرتجلة حول الموضوع.. ما هي الزلازل؟ كيف تنشأ؟ هل يمكن التنبؤ بها؟ ما مقياس الزلازل؟ وما وظيفته؟
وهكذا دارت الأسئلة بين الحضور الذين تقلّص عددهم بسبب انصراف بعضهم.. وتمّت إجابة تلك الأسئلة كيفما اتُّفِق.. لكنّ السؤال الأخير كان مثيراً للجدل: إذا لم يكن لمقياس الزلازل أهمية في تجنّب أضرارها أو التخفيف منها فأين تكمن أهميته إذاً..؟ ودفع هذا الجانب من النقاش بالذات أحد الحضور وكان شيخاً تجاوز الستين من العمر إلى تذكّر حادثة تعود بتاريخها إلى زلزال المرج.. كان الشيخ يستحثُّ رجلاً في العقد الخامس من العمر جالساً بجواره لكي يتذكَّر معه تلك الحادثة.. كان الرجل ذا لباس أنيق وعناية واضحة بمظهره.. وتدل مداخلاته في النقاش على قدر كبير من الثقافة.. استحثَّه الشيخ قائلاً:
ـ تذكَّر يا استاد سالم أيش دارت خالتك (حَوّا) في زلزال المرج؟
وأجاب الأستاذ سالم بوجه خالٍ من التعبير:
ـ انعم.. خالتي حَوّا الواحد ما يقدر ينساها ولا يقدر ينسى أيش دارت.
***
وقع زلزال المرج القديمة ـ كما حدَّده ألأستاذ سالم ـ وهو يروي الحكاية.. بدقّة مساء يوم الخميس 27 رمضان 1382 هجرية 1963.2.23م.. وكان على ثلاث هزّات أودت بحياة ما يزيد عن ثلاثمائة مواطن.
واستشهد الأستاذ سالم في ذلك ببيت من الشعر العامي للشاعر (عبدالسلام الحر).. وقد شابت صوته نَبْرة خجل.. كما أن الحضور ـ وخاصة من الشباب ـ تطلّعوا إليه بنظرات خجولة.. لأنَّ البيت ورد بقصيدة غَزَل لا رِثاء.. وقد ورد في القصيدة على سبيل التأسِّي.. ونصّه:
ثلاثين عشره بين يوم وليلة اللّي دِفّْنَوا لا طار لا شَلاّية
وكان من بين الضحايا ابن وزوج خالة سالم هذه.. وبينما كانت تصرخ وتعترض كل من يمر بها وخاصةً من الجنود الذين يقومون بأعمال الإنقاذ والإغاثة طالبةً المساعدة.. خُيّل إليها أنها تعرّفت على أحدهم وهو يمر بها حاملاً جهازاً بين يديه.. ويسير في أثره رجل يرتدي ملابس (افرنجية) ـ كما وصفته فيما بعد ـ حاولت إيقاف الجندي مناديةً إياه باسم من تعتقد أنه هو.. كانت ترجوه أن ينبش معها الأنقاض.. لكنّها كانت مُخطِئة فلم يكن الجندي هو الشخص الذي تظن.. أسرعت نحوه متسائلةً عمّا يحمل آملةً أن يكون الجهاز ذا نفعٍ في محنتها.. وفي غمرة الفوضى تقدّم منها أحد أقاربها.. وسواء أكان مقتنعاً بما قال أم قاله من باب التهدئة.. فقد حاول إفهامها بلغة ميسّرة أن هذا الجندي يحمل كما يظن جهاز مقياس الزلازل لرصد الهزّات اللاحقة المتوقعة.. وتساءلت (حَوّا) عمّا إذا كان لذلك دخل في إنقاذ أولئك القابعين تحت الأنقاض.. وكانت إجابة قريبها سلبية.. فلحقت بالجندي وضربته على حين غرة ضربةً أطاحت بالجهاز من يديه وسقط على الأرض.. وشرعت تدوسه وتدكّه بقطع الحجارة المتخلفة من الأنقاض.
وعلَّق الأستاذ سالم:
ـ موش معروف الجهاز كان مقياس زلازل والاّ جهاز آخر.. لكن خالتي كانت في ظروف صعبة وتبِّي حل.
كنت آخر المُنصرفين من عند صديقي هذا.. وقد كلَّفني هذا التريث حذائي الجديد.. ووجدت بدلاً منه حذاءً مُهترئاً ومُتَّسِعاً.. وَصَفَه عَلِيّ بالقارب.. أصرَّ على الاحتفاظ به وأعطاني بدلاً من حذائه.
ودّعني بعد ذلك وقد كانت ترن في أذني كلماته عن أفضلية الكتابة عن المرحلة بعد مرورها بزمن طويل.. ولم أنسَ أيضاً مقياس الزلازل الذي حُطِّم لأنه يتحدث عادةً عن الزلزال بعد وقوعه.. وقبل أن أدير مفتاح السيارة في مكانه قلت لعَلِي:
ـ أعجبتني قصة الحاجة (حَوَّا).
ـ اكتبها.. ولكن سَمِّيها (مقياس الزلازل).
ثم بعد أن بدأت السيارة تَحَرُّكَها صاح كمن تذكّر شيئاً:
ـ واكتب قِصَّة القِصَّة.
_______________________________________-
مقياس حواء
الكاتب : وفاء الحسين
(( ذكرتني قصة "مقياس الزلازل" للكاتب عبد الله هارون بصورة "الواقعة" ربما لأن الواقعة ( لغة ) تسمية لا تقتصر على قيام الساعة وإنما تعم لتشمل كل حدث يفاجئ ويهز...
كالزلزال مثلا... ولقد صدقت خالتنا حواء المذكورة، فالإنسان هو الأهم في أي واقعة، ( الضرر الواقع على الإنسان وإمكانية دفع الضرر)، ثم يأتي لاحقا أخذ العبر بالتحليل والمقارنة والاستقراء.. لهذا استهل الحق السورة بأن قال "إذا وقعت الواقعة* ليس لوقعتها كاذبة*خافضة رافعة* إذا رجت الأرض رجا* وبست الجبال بسا* فكانت هباء منبثا* وكنتم أزواجا ثلاثة* فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة *وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشئمة *والسابقون السابقون* أولئك المقربون* في جنات النعيم* ثلة من الأولين* وقليل من الآخرين " وهذا تماما ما يحدث في أي واقعة...أولا المفاجأة ثم محاولة عدم التصديق كنوع من الرفض "ليس لوقعتها كاذبة" ثم استشعار حجم الدمار والاهتزاز وقد يكون في ذواتنا أو مشاريعنا لا في الأرض وحدها إلا أن الأرض تبقى أم البشر.. ومصدر أمنهم وهم يبقون مستخلفين فيها لهذا هزتها أعمق وأصدق الهزات.. ومن ثم البحث عن حلول لدفع البلاء ورده "دفاع" ..إلا أن الطرح القرآني الأجمل دوما جاء بكلمة "هباء منبثا" ليقدم أن هذا آخر ما تتحسر عليه في الدنيا لتواجه حقيقتك، لتواجه نفسك.. ولهذا كانت "هباء منبثا" تقديما لشرح وضع الناس وهو الجانب الأهم الذي ضايق خالتنا حوا تجاهله في القصة، وإذ يوضح القران أحوال الناس كأهم ما في الواقعة فإنه يصنفهم لثلاثة أزواج ونحن نعرف أن التصنيف الزوجي دائما ثنائي(خير وشر)،(جنة ونار)،(مؤمن وكافر)، لكن كيف كان ثلاثة .. فهذا أهم دروس السورة وهو (السبق)، وهو إشارة لسرعة إجابة النداء وهي صفة تهمل قيمنا التربوية المعاصرة تأصيلها، وكنا نسميها "مروة"، ونقول "فلان دمه حامي"، ونفخر بأننا "بوادي لباسين جرود، يهبو لو صار البارود" أما إذ تبلدنا " من بلاد وبلدة " - راجع علي فهمي خشيم، رحلة الكلمات - أي تحضّرنا (أصبحنا حضرا) فأصبح التباطؤ أحد سماتنا لهذا كان هؤلاء السابقون " ثلة من الأولين وقليل من الآخرين"... حيث سيزحف التحضر على البشر لا محالة ،فهل سنحاربه، لا ولكن لنتجهز له ونتحسس مخاطره ونؤصل من بداوتنا ما يسلحنا للتحول ،وهناك تساؤل حول علاقة سورة تتحدث عن قيام الساعة بالفقر والغنى خاصة بعد قراءة حديث عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا" رواه ابن عساكر وأبو يعلي..
وباعتقادي.. إن السبق هو المؤشر الاقتصادي الذي تطرحه السورة ويتعلق بالفقر والغنى، فنحن ندرس المبادرة كأحد أهم مقومات الإنجاز في الإدارة، وفي ثقافتنا الشعبية "اللي سبق كلى النبق" لأن السبق هو دالة في الزمن الذي هو أهم معطيات العمل سواء بمعايير الإدارة أو بمعايير العسكرية أو بمعايير كرة القدم، والله تعالى إذ يخصنا بهذا الدرس لنقرأه كل ليلة فهذا لأن السبق كرامة، لهذا سبق توضيح أحوال السابقين عن غيرهم كرامة لهم، وجزاء من جنس العمل ، ولأنه سبحانه سيسبق الزمن حين يسألنا عن النعم " لا تزول قدم أحدكم حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه...إلى بقية الحديث". يستحثنا كاتب القصة بسؤاله متى يجب أن نناقش القضية في وقتها أو لاحقا..وأجيبه / توقع إجابات متنوعة حسب "مروة" مجيبيك....
تعرفون ماذا أثارني في قصة "مقياس الزلازل"..؟... تلقائية حواء وقوتها فلو كانت لدينا أمهات تكسر رؤوس المتباطئين لما شكونا الفقر أبدا.... ))

__________________________________
حوا / هي امرأة تضرب بالحجارة شخص يقف وسط الأنقاض ليقيس الزلازل بعد أن خيب أملها في نخوته.

الجمعة، 17 سبتمبر 2010

تجاهل...

لوحة للفنانة المكسيكية فريدا كاهلو

لحظة اختراع القتل..بقلم/ في صمته مرغم
" بعض الناس طغاة لأننا نركع لهم" ..
*البداية ليست صعبة, بل أصعب. البداية أصعب, ليس - فقط - لأنها الأساس, ولكن لأنها الإتجاه. البداية هي النقطة التي نرسم من عندها إتجاه النظر أو إتجاه السير. ليست البداية هي - فقط - الموضع الذي نبدأ من عنده البناء, بل هي - أيضا - الموضع الذي يحدد إتجاه البناء, أو إتجاه الحكم والنقض والهدم. ولو انحرف الإتجاه بمقدار ضئيل في بدايته, فمع الاستمرار في السير, والتوغل في الاتجاه, يزداد الانحراف عن الوجهة.البداية أصعب, لأنها تعني بداية القرار, تعني الخلق والابتكار. خلق قرار من لا شيء, ابتكار طريق من لا شيء, أما كل ما بعدها فهو نتيجة لها, تابع لها. البداية هي لذة الافتطار, لذة البدء بالاختيار. وهذه هي لذة الأفعال عموما, أنت تثبت لنفسك قدرتك على الاختيار وفعل ما تشاء. وهذا عبء لو تعلمون عظيم. فلا يمكن أن تجد حيوانا يبدأ شيئا جديدا, لأن الله وثّق بين العقل والاختيار. وبهما تبدأ الأشياء, وبهما تُرتَكَبُ الجرائم. لذا حين تحسن الاختيار في الدنيا, تكافأ بجنة الآخرة.البداية إتجاه, تماما كما التغيير يحتاج إلى الإتجاه أكثر من حاجته إلى المسافة. والبداية ترعبني.البداية أجمل وأروع وفق اتجاهها, لا تبعا للمسافة التي نقطعها. فخطوة في الاتجاه السليم أعظم من أميال في الاتجاه الخاطئ. البداية رفض للواقع والحال, رفض للمكان الذي تقف فيه, والظل الذي يخفيك عن الشمس. يقولون أن البداية سهلة, لكن الاستمرار هو الصعب. وهم مخطئون, فمن يعتقد أن البداية سهلة حتما لن يحسنها, وكذلك من يعتقد انه مستحيلة. ستكون بداية واهنة معرضة للسقوط والموت, لذا يكون الاستمرار عليها صعبا, لأن الأساس معرض للسقوط. الاستمرار صعب لأن البداية لم تكن موفقة, لم تكن بداية في الاتجاه الصحيح, فيصبح الاستمرار عليها صعبا. لا أعرف بداية سهلة, ولا أعرف بداية صعبة. إنما البداية أصعب.ولذا يقولون أن إصلاح النفس أسهل كثيرا من إصلاح الغير. فلإصلاح الغير تكتفي بالكلام والتوجيه, أما لتصلح نفسك فلابد من أن ترتكب فعلا. وهنا العائق, أن ترتكب الفعل مبتدئا. شتان بين عادة تمارسها كل يوم, وبين فعل تفعله كل يوم, تبدأه من جديد في كل يوم.والانتظار ليس فعلا. هل يمكن أن يندرج الانتظار تحت قائمة الأفعال؟ أنتظر فيطالبونني بالهدوء, أنتظر فيصيبني الإجهاد, وأتصبب عرقا من كثرة الانتظار؟ لذا الفارق كبير بين المنتظر وبين المنتصر/ الفاعل. الفاعل تُحسَب له مبادرته, وشرفها يكفيه. والمنتظر تُحتَسَب عليه أنفاسه, بل وتُنتَزَع عنه أهليته وأرضه.إن السؤال الفارق هو: من بدأ؟, لا من فعل؟
ثم أما بعد..
الجريمة كلٌ, ليست فعلا منفردا.هناك تقع عبقرية الجاني, التوتر والقلق الذي نشأ بينه وبين ما حوله, وجعله يرتكب جريمته. المجرم عَرَضا كمن اخترع صدفة. لا تنفي الصدفة عبقريته. المخترع مؤهل لأن تكون هذه الصدفة من نصيبه, المجرم كذلك. لا يستطيع أحد أن يشغل مكانه, الجُرم يختار مرتكبه, والمجرم يظن أنه الفاعل. سيقع الجرم حتما وإن لم يجد فاعلا, فسَيُبنَي للمجهول. الجريمة الكاملة ليست كذلك, بل هي جريمة بلا فاعل. جرمها ما وجد من يتركبه, فارتُكِبَ.الكاذب عَرَضا, الذي ارتكب كذبته لأول مرة فتذوق لذتها, فأدمن هذا المذاق. لا يمكن أن يتوقف الكاذب عرضا عن كذبه, إنه أشبه بجائع لا يدري ما الذي يطفئ جوعه. يجرب كل ما يقع تحت يديه دون جدوى, إلى أن يجرب الطعام, فيعود إليه كلما جاع. الكاذب يعود إلى الكذب كلما جاع, كلما شعر بضعف الجوع ووهنه. يعود إلى كذبته ليتقوى, ليضعها درعا على جسده ويحتمى بها.ما وُجِد قوي إلا بوجود ضعيف, وما وجد ظالم إلا بوجود مظلوم. الضعيف يختلق قويا لكي يُظهِر انكساره, والمظلوم بحاجة إلى ظالم كي يبني عليه استكانته. الضعيف بحاجة إلى القوي أكثر مما يحتاجه القوي. لأن الضعف والقابلية للظلم موجودة قبل وجود الظالم. ما يحصل هو أن يأتي ظالم فيفضح ضعفنا, ويُظهِر انكسارنا. المظلوم موجود من قبل الظالم, وليس المظلوم نتيجة لوجود الظالم. هابيل مقتول قبل أن يقتله قابيل. لا أريد أن أتطرف وأقول أن الظالم نتيجة لوجود المظلوم. ولا أريد التطرق إلى الحيرة التي تطرق جمجمتي الآن: كيف أفسر حاجتي إلى الآخر على أنها ضعف؟, ضعف يدفعني إلى من أستند عليه لأقف, يجبرني على أن تكون لي دعوة مظلوم أدعوها على ظالمي. كيف أتأكد أن حاجتي هذه ليست إلى مظلوم أمارس عليه سطوتي؟, أو إلى ضعيف أتقوى عليه؟ هل أنا ضعيف أم قوي؟ ظالم أم مظلوم؟ أم أنا تكوينة غبية مستحدثة 1من هذا وهذا؟ ظالم متعسف على نفسه, قوي يتقوى على ضعفه؟ أ. هـالمجرم الذي ابتدأ, لا يجب أن نحرمه أستاذيته. قابيل القاتل الأول, لا يحق لنا أن نغفل عن جرأته الخارقة الخلاقة, وكيف نظر إلى وجه أخيه ومع ذلك قتله. كيف لم يهتم بلمع الحياة في عين أخيه. القتل سهل, أسهل ما يمكن, إذا ما تمكنت من تجاهل نظرات القتيل لك. قابيل فعلها, ارتكب التجاهل أولا, بعدها تصبح أي جريمة ممكنة. بل ما بعد ذلك "لا" يصبح جريمة. التجاهل أعنف أنواع القتل, التجاهل قتل لا تطوله يد القانون المقطوعة. المتجاهِل شخص محصَن ضد الآخر, لا يسمعه ولا تؤثر فيه وخذات الآخر ولا طعناته. والمتجاهَل شخص لابد وأن يؤمن بحتمية التوقف عما يفعله قبل أن يتعب بلا جدوى. تلك النشوة في أن تجد قتيلك تحت "عدم" رحمتك. تعتقد أنك أصبحت إلها يميت ويحيي, كما النمروذ. والقتيل كما إبراهيم, يعلم العبث الذي يحياه النمروذ. وأن لا جدوى من مناقشة القاتل أو استرجائه, هل يعي القتيل ذلك لحظة نقاشه لقاتله؟, أم بعد أن تنغرس أولى أسنان القتل في لحمه؟. طبعا القاتل والقتيل يتناقشا, لا يمكن ان نغفل العلاقة الحميمة بينهما. فالقتل مرحلة متطرفة من النقاش, وأد للحوار المضيع للوقت. لهذا لم يستمع قابيل لما يقوله هابيل, ((إنما يستجيب الذين يسمعون)), تحتاج إلى صدمة لتنبه الغارق في الدهشة, الغارق في لذة الاكتشاف البكر, الغارق في التجاهل حد النشوة. كان هذا قابيل متجاهِلا, وكان هابيل متجاهَل. فتم القتل. مع التحفظ طبعا على تمام فعلة كهذه.قابيل الذي سن القتل, يجمع ذنب القتلة جميعا. يوضع في كفة والقاتلون جميعا في كفة توازيها. بل ربما كفتهم أقل, لأن إعادة الفعل, عملية عقيمة لا تحمل من ذرية الإبداع شيء, ولا تنجب اختلافا. الإبداع في الاختلاق على الصورة الأولى, وليس في التزيين/التزييف. جمال العروس في هيئتها الأولى دون تزييف, تعود العروس إلى حقيقة جمالها بعد زوال الزينة عنها. كل القتلة الذين أتوا بعده مهما تفننوا فإنهم يسيرون على نهجه, فقط هم يضعون لمسة بسيطة تخبر عنهم. المؤكد أن هذه اللمسة للتفرقة بين الجرم الأول وما تلاه, كنوع من تمييز الأصل عن الفروع, كي لا يختلط الأمر على العامة.قابيل الذي أصبح عنوانا للبشرية تأتي "معظمها" خلفه. لا نحاسبه لأجل "مادية الجريمة" وجسد هابيل وفقط, بل لأن شخصيته تقتضي ذلك, كان قابيل عاقلا يدرك عواقب تصرفاته, لذا عليه تحملها. كان قابيل عاقلا, لا يجب أن نلصق أمرا هائلا كالقتل, بشخص فاقد العقل ولا يدري قيمة ما يفعل. قابيل الذي نبه إلى الدفاع الاجتماعي. إلى ضرورة التقويم قبل العقاب. فدفن أخاه بتقويم من الغراب. وانتظر عقابه. لحظة القتل التي امتدت. توقف عندها الزمن مشدوها لما يراه لأول مرة. دون سابق خبرة اُختُرِعَ القتل. اللحظة التي أصبح فيها الانسان كالحيوان, فذَبَحَ وذُبِحَ. اللحظة التي ارتبكت فيها الأرض بعد سقوط أول قطرة دم بشري عليها, فلم تدر ما الذي يتوجب فعله حيالها, فلم تتشربها ومنعتها عن جوفها, كي لا تكون شريكة لقابيل في جرمه بأن تشرب دم القتيل رضاً بالقتل. ومازالت دهشتها باقية ترفض أن تتشرب دما بشريا.لحظة القتل التي فضحت القانون, فلا جريمة ولا عقوبة بغير نص كما يقول. وقابيل اخترع وارتكب, شيئا لم يكن ليطوف في أذهان غيره. لو افترضنا أنهم وضعوا قانونا يجرم القتل ويضع عقوبة له, لقلنا إن واضع هذا القانون قد ساعد قابيل بطريقة ما, حين نبهه إلى تلك الجريمة. ولكن قابيل لم ينبهه أحد. ولكنه نبه إلى أن القوانين الوضعية لا تفعل, وإنما ترد على الفعل بشيء من التأخر الوقتي. فتجد دائما أن الفاعل الأول ينجو من عقوبته حيث لا نص. اللحظة التي عاد بعدها قرين قابيل إلى إبليس ليخبره أن أول قتلة حدثت بوسوسته. اللحظة التي أدرك فيها إبليس أن القتل أشد من الكفر, فالكفر يحمل احتمالا بالرجوع والتوبة, أما القتل فموت ما بعده حياة. تلك الجريمة النهائية التي لا رد لها ولا تراجع عنها. الطلقة التي لا يمكن أن تعود. والطعنة التي تقطع الجسد فلا يلتئم. فألبسه التاج لأول جريمة قتل2.مهلا إن من وسوس بهذا لقابيل لابد وأن يكون إبليس نفسه. لا يمكن أن تتم هذه الفعلة عن طريق شيطان مبتدئ, إنه إبليس, الشر النقي – لو كان للشر نقاء. الذي اخترع القتل بوسوسته. هو نفسه إبليس الذي ارتكب أول كبيرة, ووسوس بأول معصية بشرية, ووسوس بأول جريمة قتل, ووسوس بأول شرك بالله. هو نفسه الذي يملك المباردة, وباقي المردة يتبعونه.إن القتل لذة أولى, لا تتكرر. إندهاشة أولى عند الفعلة الأولى. القاتل المتسلسل لابد وأن يعلم أن تكرار القتل عبث لا طائل وراءه. وأن القتل مرة في العمر. وإن تعدد الأمر وتكرر يصبح شيئا عبثيا ويفقد جماله. لذا أشفق على القاتل المتسلسل, الذي أصبح القتل عنده عادة, لا لذة فيها, يقتل دون أن يحصل على اللذة. فيظل جائعا إليها فيقتل ثانية طلبا لها, ولا يحصل عليها. متاهته التي يبنيها بيده.إن المعضلة الأساسية ليست في الفعل نفسه, وإنما في كيفية ابتدائه. إن اللذة الأساسية ليست في الفعل نفسه, وإنما في كيفية ابتدائه. فرق كبير بين من يفعل فعلا قياسا على فعل سابق, وبين من يبدأه بغير طريقة سابقة. لذلك تفقد الأفعال لذتها حين تتحول إلى عادات, لأن تكرار العادة يقتل لذة الفعل ابتداء, يقتل لذة التجديد والشعور بأنك تأتي الأمر للمرة الأولى. وتفض بكارته للمرة الأولى. القاتل المتسلسل حين يرتكب جريمته الثانية يصبح مقلدا لا بادئا, حتى ولو كان يقلد نفسه. فيتحول القتل إلى عادة تستوى مع عادة الأكل والشرب والنوم, والموت.المجرم والمجني عليه مجني عليهما. المقتول يعاقِب قاتله بموته, أن تقتل أو تبدأ في ارتكاب الأذى فأنت معاقَب. ولكن أكبر عقوبة دنيوية قدمها هابيل لقابيل هي استسلامه له. القاتل لا يبحث عن الاستسلام, يبحث عن الرِيّ لعنفه حين يقابله عنف من الطرف الآخر فينتصر عنف القاتل. القاتل يبحث عن الحياة ليقتلها والاستسلام يخفي هذه الحياة. إن هابيل مقتول قبل أن يقتله قابيل, مات هابيل باستسلامه, وتحمل قابيل الوزر. هابيل المقتول, الذي سن القتل, بخضوعه. استسلم ولكنه لم ينحن. لأن " ينحني" فعل مضارع دائما, لا يمكن أن يتحول إلى ماض. الإنحناء فعل مستمر, لا يمكن أن ينتهي. وهابيل لا يريد هذا الإرهاق لنفسه, عنقه لن يحتمل قوة هذا الفعل – الانحناء. فارتفع بنفسه. هابيل المقتول, الذي سن القتل, بخضوعه. يحمل نصيبا من ذلة كل مقتول, لكنها الذلة المبررة, الذلة للمؤمنين ((أذلة على المؤمنين..)). الخضوع المتعملق – الشيء الوحيد العملاق فينا – ينمو على حساب الكيان الفيزيائي, فينكمش الخاضع ليغذي خضوعه بتقليل حجمه هو. هابيل – كما يقول المفسرون – كان أقوى من قاتله. أقوى منه جسديا, فضلا على قوته حين ملك نفسه عن الغضب. كان هابيل أقوى لدرجة أنه ذهب ينام هانئا, بطمأنينة الحال. ليس السبب في نومه كذلك أنه لا يخشى الموت, بل هو نائم فرح لأنه هابيل المقتول, وليس قابيل القاتل. القتيل ينام قرير العين حمدا لله على أنه في كفة المظلومين. والقاتل يقضي ليله في محاولة تقبل الأمر أنه لشقائه أصبح في كفة الظالمين. الأمر كذلك بالنسبة لهما لأنهما إخوة, والأمر نفسه بالنسبة لباقي الإخوة في الدين, خيرهم الذي يستجيب للأمر النبوي النافذ (كن كخيري ابني آدم). أما بالنسبة للأعداء, فالقاتل هو الذي يكتب التاريخ, وهو الذي يمتطي التاريخ ومقتوليه. فتصبح الذلة له انحناء, تلك اللفظة الشليلة المشتقة من الفعل اللانهائي"ينحني" المستمر.ثم حان الوقت ليعاد التساؤل الملائكي ويرتفع ثانية ((أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء..)), ولا مانع من تقديم جهل الجن واستحضاره في تلك اللحظة (( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا)). تلك المعرفة السابقة للتكوين, وذلك الجهل الموغل حتى بعد تعاقب الزمن. حان الوقت للغراب أن يفعل شيئا, طبعا بأمر إلهي. حان الوقت لنعطي القتيل حقه, قبل أن يأتي يوم القيامة وهو يشد قاتله معه, ويقول: يارب, سل هذا لما قتلني؟يارب, سل هذا لم قتلني؟, لو كان لي حق الجواب لقلت أنه قتلك بسبب الصمت, وأن الصمت والموت نهايتا الأحياء, يصمت هذا فيموت هذا. يموت هذا فيصمت هذا.
-------------
1- باعتبار ((وهديناه النجدين))
2- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا أصبح إبليس بث جنوده فقال من أضل مسلما ألبسته التاج فيقول ما زلت بفلان حتى طلق امرأته فيقول إبليس يوشك أن يتزوج ,ويأتي هذا فيقول ما زلت به حتى عق والديه فيقول يوشك أن يبرهما , ويأتي هذا فيقول ما زلت به حتى أشرك فيقول أنت انت وياتي هذا فيول ما زلت به حتى قتل فيقول أنت أنت ويلبسه التاج).
------------------
(قابيل القاتل الأول, لا يحق لنا أن نغفل عن جرأته الخارقة الخلاقة, وكيف نظر إلى وجه أخيه ومع ذلك قتله. كيف لم يهتم بلمع الحياة في عين أخيه. القتل سهل, أسهل ما يمكن, إذا ما تمكنت من تجاهل نظرات القتيل لك. قابيل فعلها, ارتكب التجاهل أولا, بعدها تصبح أي جريمة ممكنة. بل ما بعد ذلك "لا" يصبح جريمة. التجاهل أعنف أنواع القتل, التجاهل قتل لا تطوله يد القانون المقطوعة. المتجاهِل شخص محصَن ضد الآخر, لا يسمعه ولا تؤثر فيه وخذات الآخر ولا طعناته. والمتجاهَل شخص لابد وأن يؤمن بحتمية التوقف عما يفعله قبل أن يتعب بلا جدوى. تلك النشوة في أن تجد قتيلك تحت "عدم" رحمتك. ).. اروع ما قرأت لاخي (في صمته مرغم)..ما اصدقه من صمت...يسفر عن ضجة فاتنة لايمكننا تجاهلها .. حتى ونحن ندرك ما فيها من حميمية قد تقتلنا.... كل عام وصمتك اعلى...وفاء الحسين